فصل: الفصل الثاني من الباب الثالث من المقالة التاسعة ما يكتب في متعلقات أهل الذمة عند خروجهم عن لوازم عقد الذمة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.الفصل الثاني من الباب الثالث من المقالة التاسعة ما يكتب في متعلقات أهل الذمة عند خروجهم عن لوازم عقد الذمة:

واعلم أنه ربما خرج أهل الذمة عن لوازم عقد الذمة، وأظهروا التمييز والتكبر وعلو البناء، إلى غير ذلك مما فيه مخالفة الشروط، فيأخذ أهل العدل: من الخلفاء والملوك في قمعهم والغض منهم وحط مقاديرهم، ويكتبون بذلك كتباً ويبعثون بها إلى الآفاق ليعمل بمقتضاها، غضاً منهم وحطاً لقدرهم، ورفعة لدين الإسلام وتشريفاً لقدره، إذ يقول تعالى: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون}.
وهذه نسخة كتاب كتب به عن المتوكل على الله حين حج، سمع رجلاً يدعو عليه، فهم بقتله، فقال له الرجل: والله يا أمير المؤمنين ما قلت ما قلت إلا وقد أيقنت بالقتل، فاسمع مقالي ثم مر بقتلي، فقال: قل!- فشكا إليه استطالة كتاب أهل الذمة على المسلمين في كلام طويل، فخرج أمره بأن تلبس النصارى واليهود ثياب العسلي، وأن لا يمكنوا من لبس البياض كي لا يتشبهوا بالمسلمين، وأن تكون ركبهم خشباً، وأن تهدم بيعهم المستجدة، وأن تطلق عليهم الجزية، ولا يفسخ لهم في دخول حمامات خدمها من أهل الإسلام وأن تفرد لهم حمامات خدمها من أهل الذمة، لا يستخدموا مسلماً في حوائجهم لنفوسهم، وأفردهم بمن يحتسب عليهم. وقد ذكر أبو هلال العسكري في كتابه الأوائل: أن المتوكل أول من ألزمهم ذلك؛ وهي: أما بعد فإن الله تعالى اصطفى الإسلام ديناً فشرفه وكرمه، وأناره ونضره وأظهره، وفضله وأكمله؛ فهو الدين الذي لا يقبل غيره؛ قال تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين}، بعث به صفيه وخيرته من خلقه، محمداً صلى الله عليه وسلم، فجعله خاتم النبيين، وإمام المتقين، وسيد المرسلين: {لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين}، وأنزل كتاباً عزيزاً: {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد}، أسعد به أمته، وجعلهم خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله، {ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون}، وأهان الشرك وأهله، ووضعهم وصغرهم وقمعهم وخذلهم وتبرأ منهم، وضرب عليهم الذلة والمسكنة، فقال: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون}.
واطلع على قلوبهم، وخبث سرائرهم وضمائرهم، فنهى عن ائتمانهم، والثقة بهم: لعداوتهم للمسلمين، وغشهم وبغضائهم، فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون}، وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطاناً مبيناً}، وقال تعالى: {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة}، وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين}.
وقد انتهى إلى أمير المؤمنين أن أناساً لا رأي لهم ولا روية يستعينون بأهل الذمة في أفعالهم، ويتخذونهم بطانة من دون المسلمين، ويسلطونهم على الرعية، فيعسفونهم ويبسطون أيديهم إلى ظلمهم وغشهم والعدوان عليهم، فأعظم أمير المؤمنين ذلك، وأنكره وأكبره، وتبرأ منه، وأحب التقرب إلى الله تعالى بحسمه والنهي عنه، ورأى أن يكتب إلى عماله على الكور والأمصار، وولاة الثغور والأجناد، في ترك استعمالهم لأهل الذمة في شيء من أعمالهم وأمورهم، والإشراك لهم في أماناتهم، وما قلدهم أمير المؤمنين واستحفظهم إياه، إذ جعل في المسلمين الثقة في الدين، والأمانة على إخوانهم المؤمنين، وحسن الرعاية لما استرعاهم، والكفاية لما استكفوا، والقيام بما حملوا بما أغنى عن الاستعانة بأحد من المشركين بالله، المكذبين برسله، الجاحدين لآياته، الجاعلين معه إلهاً آخر، ولا إله إلا هو وحده لا شريك له؛ ورجا أمير المؤمنين- بما ألهمه الله من ذلك، وقذف في قلبه- جزيل الثواب، وكريم المآب، والله يعين أمير المؤمنين على نيته على تعزيز الإسلام وأهله، وإذلال الشرك وحزبه.
فلتعلم هذا من رأي أمير المؤمنين، ولا تستعن بأحد من المشركين، وأنزل أهل الذمة منازلهم التي أنزلهم الله بها، واقرأ كتاب أمير المؤمنين على أهل أعمالك وأشعة فيهم، ولا يعلم أمير المؤمنين أنك استعنت ولا أحد من عمالك وأعوانك بأحد من أهل الذمة في عمل الإسلام.
وفي أيام المقتدر بالله، في سنة خمس وتسعين ومائتين، عزل كتاب النصارى وعمالهم، وأمر أن لا يستعان بأحد من أهل الذمة حتى أمر بقتل ابن ياسر النصراني عامل يونس الحاجب، وكتب إلى عماله بما نسخته: عوائد الله عند أمير المؤمنين توفي على غاية رضاه ونهاية أمانيه، وليس أحد يظهر عصيانه إلا جعله الله عظة للأنام، وبادره بعاجل الاصطلام: والله عزيز ذو انتقام؛ فمن نكث وطغى وبغى، وخالف أمير المؤمنين، وخالف محمداً صلى الله عليه وسلم، وسعى في إفساد دولة أمير المؤمنين، عاجله أمير المؤمنين بسطوته وطهر من رجسه دولته والعاقبة للمتقين.
وقد أمر أمير المؤمنين بترك الاستعانة بأحد من أهل الذمة، فليحذر العمال تجاوز أوامر أمير المؤمنين ونواهيه.
وفي أيام الآمر بأحكام الله الفاطمي بالديار المصرية، امتدت أيدي النصارى، وبسطوا أيديهم بالخيانة، وتفننوا في أذى المسلمين وإيصال المضرة إليهم. واستعمل منهم كاتب يعرف بالراهب، ولقب بالأب القديس، الروحاني النفيس، أبي الآباء، وسيد الرؤساء، مقدم دين النصرانية، وسيد البتركية، صفي الرب ومختاره، وثالث عشر الحواريين، فصادر اللعين عامة من بالديار المصرية: من كاتب وحاكم وجندي وعامل وتاجر، وامتدت يده إلى الناس على اختلاف طبقاتهم، فخوفه بعض مشايخ الكتاب من خالقه وباعثه ومحاسبه، وحذره من سوء عواقب أفعاله، وأشار عليه بترك ما يكون سبباً لهلاكه. وكان جماعة من كتاب مصر وقبطها في مجلسه، فقال مخاطباً له ومسمعاً للجماعة: نحن ملاك هذه الديار حرثاً وخراجاً، ملكها المسلمون منا، وتغلبوا عليها وغصبوها، واستملكوها من أيدينا؛ فنحن مهما فعلنا بالمسلمين فهو قبالة ما فعلوا بنا، ولا يكون له نسبة إلى من قتل من رؤسائنا وملوكنا في أيام الفتوح؛ فجميع ما نأخذه من أموال المسلمين وأموال ملوكهم وخلفائهم حل لنا، وهو بعض ما نستحقه عليهم؛ فإذا حملنا لهم مالاً كانت المنة لنا عليهم، وأنشد:
بنت كرم يتموها أمها ** وأهانوها فديست بالقدم

ثم عادوا حكموها بينهم ** ويلهم من فعل مظلوم حكم

فاستحسن الحاضرون من النصارى والمنافقين ما سمعوه منه، استعادوه، وعضوا عليه بالنواجذ، حتى قيل: إن الذي احتاط عليه قلم اللعين من أملاك المسلمين مائتا ألف واثنان وسبعون ألفاً، ومائتا دار وحانوت وأرض بأعمال الدولة، إلى أن أعادها إلى أصحابها أبو علي بن الأفضل، ومن الأموال ما لا يحصيه إلا الله تعالى.
ثم انتبه من رقدته، وأفاق من سكرته، وأدركته الحمية الإسلامية، والغيرة المحمدية، فغضب لله غضبة ناصر للدين، وثائر للمسلمين، فألبس أهل الذمة الغيار، وأنزلهم بالمنزلة التي أمر الله أن ينزلوا بها من الذل والصغار، وأمر أن لا يولوا شيئاً من أعمال الإسلام، وأن ينشأ في ذلك كتاب يقف عليه الخاص والعام.
وهذه نسخته: الحمد لله المعبود في أرضه وسمائه، والمجيب دعاء من يدعو بأسمائه، المنفرد بالقدرة الباهرة، المتوحد بالقوة الظاهرة، وهو الله الذي لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة، هدى العباد بالإيمان إلى سبيل الرشاد، ووفقهم في الطاعات لما هو أنفع زاد في المعاد، وتفرد بعلم الغيوب فعلم من كل عبد إضماره كما علم تصريحه يسبح له من في السموات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه، الذي شرف دين الإسلام وعظمه، وقضى بالسعادة الأبدية لمن انتحاه ويممه، وفضله على كل شرع سبقه وعلى كل دين تقدمه، فنصره وخذلها، وأشاده وأخملها، ورفعه ووضعها، وأطده وضعضعها، وأبى أن يقبل ديناً سواه من الأولين والآخرين، فقال تعالى وهو أصدق القائلين: {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن تقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين}، وشهد به بنفسه، وأشهد به ملائكته وأولي العلم الذين هم خلاصة الأنام، فقال تعالى: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم إن الدين عند الله الإسلام}.
ولما ارتضاه لعباده وأتم به نعمته، أكمله لهم وأظهره على الدين كله وأوضحه إيضاحاً مبيناً، فقال تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً}.
وفرق به بين أوليائه وأعدائه، وبين أهل الهدى والضلال، وأهل البغي والرشاد، فقال تعالى: {فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد}.
وأمر تعالى بالثبات عليه إلى الممات، فقال وبقوله يهتدي المهتدون: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون}؛ وهي وصية إمام الحنفاء لبنيه وإسرائيل: {يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون * أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحق إلهاً واحداً ونحن له مسلمون}.
وشهد على الحواريين عبد الله ورسوله وكلمته عيسى بن مريم وهو الشاهد الأمين، قال تعالى: {فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون}.
وأمر تعالى رسوله أن يدعو أهل الكتاب إليه، ويشهد من تولى منهم بأنه عليه فقال تعالى وقوله الحق المبين: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون}.
وصلى الله على الذي رفع باصطفائه إلى محله المنيف، وبعثه للناس كافة بالدين القيم الحنيف.
أما بعد، فإن الله سبحانه ببالغ حكمته وتتابع نعمته، شرف دين الإسلام وطهره من الأدناس، وجعل أهله خير أمة أخرجت للناس؛ فالإسلام الدين القويم الذي اصطفاه الله من الأديان لنفسه، وجعله دين أنبيائه ورسله وملائكة قدسه؛ فارتضاه واختاره، وجعل خير عباده وخاصتهم هم أولياءه وأنصاره، يحافظون على حدوده ويثابرون، ويدعون إليه ويذكرون، ويخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون؛ فهم بآيات ربهم يؤمنون، وإلى مرضاته يسارعون، لمن خرج عن دينه مجاهدون، ولعباده بجهدهم ينصحون، وعلى طاعته مثابرون، وعلى صلواتهم يحافظون، وعلى ربهم يتوكلون، وبالآخرة هم يوقنون: {أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون}.
هذا وإن أمة لله هداها إلى دينه القويم، وجعلها- دون الأمم الجاحدة- على صراط مستقيم، توفي من الأمم سبعين، هم خيرها وأكرمها على رب العالمين- حقيقة بأن لا نوالي من الأمم سواها، ولا نستعين بمن حاد الله خالقه ورازقه وعبد من دونه إلهاً، وكذب رسله، وعصى أمره واتبع غير سبيله، واتخذ الشيطان ولاً من دون الله؛ ومعلوم أن اليهود والنصارى موسومون بغضب الله ولعنته، والشرك به والجحد لوحدانيته؛ وقد فرض الله على عباده في جميع صلواتهم أن يسألوا هداية سبيل الذين أنعم الله عليهم: من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ويجنبهم سبيل الذين أبعدهم من رحمته، وطردهم عن جنته، فباءوا بغضبه ولعنته: من المغضوب عليهم والضالين.
فالأمة الغضبية هم اليهود بنص القرآن، وأمة الضلال هم النصارى المثلثة، عباد الصلبان؛ وقد أخبر تعالى عن اليهود بأنهم بالذلة والمسكنة والغضب موسومون، فقال تعالى: {ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباؤوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون}.
وأخبر بأنهم باؤوا بغضب على غضب وذلك جزاء المفترين، فقال: {بئس ما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغياً أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباؤوا بغضب عل غضب وللكافرين عذاب مهين}.
وأخبر سبحانه أنه لعنهم، ولا أصدق من الله قيلاً، فقال: {يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقاً لما معكم من قبل أن نطمس وجوهاً فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولاً}.
وحكم سبحانه بينهم وبين المسلمين كماً ترتضيه العقول، ويتلقاه كل منصف بالإذعان والقبول، فقال: {قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكاناً وأضل عن سواء السبيل}.
وأخبر عما أحل بهم من العقوبة التي صاروا بها مثلاً في العالمين، فقال تعالى: {فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين}.
ثم كم عليهم حكماً مستمراً عليهم في الذراري والأعقاب، على ممر السنين والأحقاب، فقال تعالى: {وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب إن ربك لسريع العقاب}، فكان هذا العذاب في الدنيا بعض الاستحقاق: {ولعذاب الآخرة أشق وما لهم من الله من واق}، وأنهم أنجس الأمم قلوباً وأخبثهم طوية، وأرداهم سجية، وأولاهم بالعذاب الأليم، فقال: {أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم}، وأنهم أمة الخيانة لله ورسوله ودينه وكتابه وعباده المؤمنين، فقال: {ولا تزال تطلع على خانة منهم إلا قليلاً منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين}.
وأخبر عن سوء ما يسمعون ويقبلون، وخبث ما يأكلون ويحكمون، فقال تعالى: {سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئاً وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين}.
وأخبر تعالى أنه لعنهم على ألسنة أنبيائه ورسله بما كانوا يكسبون، فقال: {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون * كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون * ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون}.
وقطع الموالاة بين اليهود والنصارى وبين المؤمنين، وأخبر أن من تولاهم فإنه منهم في حكمه المبين، فقال تعالى وهو أصدق القائلين: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين}.
وأخبر عن حال متوليهم بما في قلبه من المرض المؤدي إلى فساد العقل والدين، فقال: {فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين}.
ثم أخبر عن حبوط أعمال متوليهم ليكون المؤمن لذلك من الحذرين، فقال: {ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين}.
ونهى المؤمنين عن اتخاذ أعدائه أولياء، وقد كفروا بالحق الذي جاءهم من ربهم، وإنهم لا يمتنعون من سوء ينالونهم به بأيديهم وألسنتهم إذا قدروا عليه فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل * إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون}.
وجعل سبحانه لعباده المسلمين أسوة حسنة في إمام الحنفاء ومن معه من المؤمنين، إذ تبرأ من ليس على دينهم امتثالاً لأمر الله، وإيثاراً لمرضاته وما عنده، فقال تعالى: {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده}، وتبرأ سبحانه ممن اتخذ الكفار أولياء من دون المؤمنين فقال: {ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير}.
فمن ضروب الطاعات إهانتهم في الدنيا قبل الآخرة التي هم إليها صائرون، ومن حقوق الله الواجبة أخذ جزية رؤوسهم التي يعطونها عن يد وهم صاغرون، ومن الأحكام الدينية أن يعم جميع الأمة إلا من لا تجب عليه باستخراجها، وأن يعتمد في ذلك سلوك سبيل السنة المحمدية ومنهاجها، وأن لا يسامح بها أحد منهم ولو كان في قومه عظيماً، وأن لا يقبل إرساله بها ولو كان فيهم زعيماً، وأن لا يحيل بها على أحد من المسلمين، ولا يوكل في إخراجها عنه أحداً من الموحدين، بل تؤخذ منه على وجه الذلة والصغار، إعزازاً للإسلام وأهله وإذلالاً لطائفة الكفار، وأن تستوفى من جميعهم حق الاستيفاء؛ وأهل خيبر وغيرهم في ذلك على السواء.
وأما ما ادعاه الجبابرة من وضع الجزية عنهم بعهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن ذلك زور وبهتان، وكذب ظاهر يعرفه أهل العلم والإيمان، لفقه القوم البهت وزوروه، ووضعوه من تلقاء أنفسهم ونمقوه، وظنوا أن ذلك يخفى على الناقدين، أو يروج على علماء المسلمين؛ ويأبى الله إلا أن يكشف محال المبطلين، وإفك المفترين؛ وقد تظاهرت السنن وصح الخبر بأن خيبر فتحت عنوة، وأوجف عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون على إجلائهم عنها كما أجلى إخوانهم من أهل الكتاب؛ فلما ذكروا أنهم أعرف بسفي نخلها ومصالح أرضها، أقرهم فيها كالأجراء وجعل لهم نصف الارتفاع، وكان ذلك شرطاً مبيناً، وقال: «نقركم فيها ما شئنا»، فأقر بذلك الجبابرة صاغرين، وأقاموا على هذا الشرط في الأرض عاملين؛ ولم يكن للقوم من الذمام والحرمة، ما يوجب إسقاط الجزية عنهم دون من عداهم من أهل الذمة؛ وكيف؟ وفي الكتاب المشحون بالكذب والمين، شهادة سعد بن معاذ وكان قد توفي قبل ذلك بأكثر من سنتين، وشهادة معاوية بن أبي سفيان، وإنما اسلم عام الفتح بعد خيبر سنة ثمان؛ وفي الكتاب المكذوب أنه أسقط عنهم الكلف والسخر، ولم تكن على زمانه خلفائه الذين ساروا في الناس أحسن السير.
ولما اتسعت رقعة الإسلام، ودخل فيه الخاص والعام، وكان في المسلمين من يقوم بعمل الأرض وسفي النخل، أجلى عمر بن الخطاب اليهود من خيبر بل من جزيرة العرب حتى قال: لا أدع فيها إلا مسلماً.
وفي شهر رجب سنة سبعمائة وصل إلى القاهرة المحروسة وزير صاحب المغرب حاجاً، فاجتمع بالملك الناصر محمد بن قلاوون، ونائبه يومئذ الأمير سلار، فتحدث الوزير معه ومع الأمير بيبرس الجاشنكير في أمر اليهود والنصارى، وأنهم عندهم في غاية الذلة والهوان، وأنهم لا يمكن أحد منهم من ركوب الخيل ولا الاستخدام في الجهات الديوانية، وأنكر حال نصارى الديار المصرية ويهودها بسبب لبسهم أفخر الملابس، وركوبهم الخيل والبغال، واستخدمهم في أجل المناصب، وتحكيمهم في رقاب المسلمين، وذكر أن عهد ذمتهم انقضى من سنة ستمائة من الهجرة النبوية، فأثر كلامه عند أهل الدولة، لاسيما الأمير بيبرس الجاشنكير، فأمر بجمع النصارى واليهود، ورسم أن لا يستخدم أحد منهم في الجهات السلطانية، ولا عند الأمراء، وأن تغير عمائمهم، فيلبس النصارى العمائم الزرق، وتشد في أوساطهم الزنانير، ويلبس اليهود العمائم الصفر ويدقوا...... في البيع في إبطال ذلك فلم يقبل منهم، وغلقت الكنائس بمصر والقاهرة، وسمرت أبوابها، ففعل بهم ذلك، وألزموا بأن لا يركبوا إلا الحمير، وأن يلف أحدهم إحدى رجليه إذا ركب، وأن يقصر بنيانهم المجاور للمسلمين عن بناء المسلم. وكتب بذلك إلى جميع الأعمال ليعمل بمقتضاه، وأسلم بسبب ذلك كثير منهم؛ وألبس أهل الذمة بالشام: النصارى الأزرق، واليهود الأصفر، والسامرة الأحمر.
ثم عادوا إلى المباشرات بعد ذلك، فانتدب السلطان الملك الصالح صالح ابن الملك الناصر في سنة خمس وخمسين وسبعمائة لمنعهم من ذلك، وألزمهم بالشروط العمرية، وكتب بذلك مرسوماً شريفاً وبعث بنسخته إلى الأعمال فقرئت على منابر الجوامع.
وهذه نسخته- صورة ما في الطرة: مرسوم شريف بأن يعتمد جميع طوائف اليهود والنصارى والسامرة: بالديار المصرية، والبلاد الإسلامية المحروسة وأعمالها، حكم عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لمن مضى من أهل ملتهم: وهو أن لا يحدثوا في البلاد الإسلامية ديراً ولا كنيسة ولا صومعة راهب، ولا يجددوا ما خرب منها، ولا يؤوا جاسوساً ولا من فيه ريبة لأهل الإسلام، ولا يكتموا غشاً للمسلمين، ولا يعلموا أولادهم القرآن، ولا يظهروا شركاً، ولا يمنعوا ذوي قرابة من الإسلام إن أرادوه، ولا يتشبهوا بالمسلمين في لباسهم، ويلبسون الغيار الأزرق والأصفر، وتمنع نساؤهم من التشبه بنساء المسلمين، ولا يركبوا سرجاً، ولا يتقلدوا سيفاً، ولا يركبوا الخيل ولا البغال، ويركبون الحمير بالأكف عرضاً، ولا يبيعوا الخمور، وأن يلزموا زيهم حيث كانوا، ويشدوا زنانيرهم غير الحرير على أوساطهم؛ والمرأة البارزة من النصارى تلبس الإزار الكتان المصبوغ أزرق، واليهودية الإزار الأصفر؛ ولا يدخل أحد منهم الحمام إلا بعلامة تميزه عن المسلمين في عنقه: من خاتم حديد أو رصاص أو غير ذلك، ولا يعلوا على المسلمين في البناء ولا يساووهم، بل يكونون أدون منهم، ولا يضربوا بالناقوس إلا ضرباً خفيفاً، ولا يرفعوا أصواتهم في كنائسهم، ولا يخدموا في دولتنا الشريفة- ثبت الله قواعدها- ولا عند أحد من أمرائها- أعز الله تعالى- ولا يلوا وظيفة يعلو أمرهم فيها على أحد من المسلمين، وأن يحمل الأمر في مواريث موتاهم على حكم الشريعة الشريفة المحمدية، وتوقع عليهم الحوطة الديوانية أسوة موتى المسلمين، وأن لا يدخل نسوة أهل الذمة الحمامات مع المسلمات، ويجعل لهن حمامات تخصهن يدخلنها، عملاً في ذلك بما رجحه علماء الشرع الشريف، على ما شرح فيه.
ونصه بعد البسملة الشريفة.
الحمد لله الذي بصر سلطاننا الصالح، باعتماد مصالح الدين والدنيا، ويسر لرأينا الراجح، توفير التوفيق لإثباتاً ونفياً، وتحرير التحقيق أمراً ونهيا، وقهر بأحكام الإسلام، من رام نكث العهد ونقض الذمام، بتعدي الحدود عدواناً وبغياً، وجسر على اقتحام ذنوب عظام، تخل به في الدارين عذاباً وخزيا، وتكفل للأمة المحمدية في الأولى والأخرى بالسعادة السرمدية التي لا تتناهى ولا تتغيا، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا.
نحمده أن أصحب فكرنا رشداً وأذهب بأمرنا غيا، ونشكره على أن جبر بأحكام العدل للإيمان وهنا وآثر لذوي البهتان بالانتقام وهيا، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له واحد أحد، فرد صمد، خلق ورزق وأنشأ وأفنى وأمات وأحيا، وتقدس وتمجد عن الصاحبة والولد، وأوجد عيسى بن مريم كما أوجد آدم ولم يكن شيئاً وجعله عبداً صالحاً نبياً زكياً، ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله الذي أنزل عليه مع الروح الأمين قرآناً ووحياً، واستأصل به شأفة الكفار وأنزل بهم من الأخطار الداهية الدهيا، واتبع ملة أبيه إبراهيم الذي أري الصدق وصدق الرؤيا، وجمع الله به الشتات فهدى قلوباً غلفاً وأسماعاً صماً وأبصاراً عميا، وبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة فبشرى لمن وفق من أمته فرزق لحكمته وعيا، ورفع الضلالة، ورد الضالة، وأجمل للعهد حفظاً وللذمام رعيا، ونسخت شريعته الشرائع، وسددت الذرائع، وشمخت على النجوم الطوالع، فهي أسمى منها رفعة وأنمى عدداً وأسنى هديا، صلى الله عليه وعلى آله فروع الزهراء الذين عنوا بقوله تعالى: {رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد} أمرع سقيا، خصوصاً صديقه ورفيقه في الممات وفي المحيا، ومن فرق منه الشيطان ووافق الفرقان له رأيا، ويسر الله تعالى في أيامه المباركة من الفتوحات ما لا اتفق لغيره ولا تهيا، وذا النورين الذي قطع الليل تسبيحاً وقرآناً وأحيا، واستحيت منه ملائكة السماء لما من الله استحيا، وعلى الصهر وابن العم المجاهد الزاهد الذي طلق ثلاثاً الدار الفانية التي ليس لها بقيا، وسره لما قضى على الرضا نحبه، فوجد الأحبة: محمداً وحزبه، وحمد اللحاق واللقيا، وعلى تتمة بقية العشرة الأبرار، وبقية المهاجرين والأنصار، رحمة تديم لمضاجعهم صوبها الدار السقيا، صلاة وافرة الأقسام سافرة القسمات باهرة المحيا، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد، فأحام الشرع الشريف أولى بوجوب الاتباع، وذمام الدين الحنيف يبير من عصى ويجير من أطاع، وحرمات الملة المحمدية أحق بأن تحفظ فلا تضاع؛ ومن المهمات التي تصرف إليها الهمة، ويرهف لها حد العزمة، وتقام على متعدي حدودها بالانتقام الجزية، اعتبار أحوال الملتين من أهل الذمة الذين حقن منهم الدماء حكم الإسلام، وسكن عنهم الدهماء ما التزموه من الأحكام، مع القيام بالجزية في كل عام، وسلموا لأوامر الشريعة المطهرة التي لولا الانقياد إليها والاستسلام، لأغمد في نحورهم حد الحسام؛ فهم تحت قهر سلطان الإيمان سائرون، ولأمر دين الحق الذي نسخ الله به الأديان صائرون، وهم المعنيون بقوله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون}.
ولما فتح الله تعالى ببركة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فتح من البلاد، واسترجع بأيدي المهاجرين والأنصار من أيدي الكفار العادية كثيراً من الأمصار واستعاد- وأكثر ذلك في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإنها كانت للفتح مواسم، وبالمنح بواسم، وتظافرت فيها للمسلمين غرائز العزائم، التي أعادت هزاهزاها الكفار يجرون ذيول الهزائم- عقد أمراؤه الفاتحون لها بأمره- رضي الله عنه وعنهم- لأهل الكتاب عهداً، وحدوا لهم من الآداب حداً لا يجوز أن يتعدى؛ ولم تزل الخلفاء بعد ذلك والملوك في جميع بلاد الإسلام يجددونها، وبالمحافظة والملاحظة يتعدونها؛ وآخر من ألزمهم أحكامها العادلة، وعصمهم بذمتها التي هي لهم ما استقاموا بالسلامة كافلة، والدنا السلطان الشهيد الملك الناصر ناصر الدنيا والدين، سقى الله تعالى عهده عهاد الرحمة، ولقى نفسه الخير لنصحه الأمة؛ فإنه- قدس الله روحه- جدد لهم في سنة سبعمائة لباس الغيار، وشدد عليهم بأس النكال والإنكار، وعقد لهم ذمة بها الاعتبار، وسطر في الصحائف منها شروطاً لهم بالتزامها إقرار، وبأحكامها أمكنهم في دار الإسلام الاستقرار، وخذل الفئتين المفتريتين عملاً بقول الله تعالى: {وما للظالمين من أنصار}.
ولما طال عليهم الأمد تمادوا على الاغترار، وتعادوا إلى الضر والإضرار، وتدرجوا بالتكبر والاستكبار، إلى أن أظهروا التزين أعظم إظهار، وخرجوا عن المعهود في تحسين الزنار والشعار، وعتوا في البلاد والأمصار، وأتوا من الفساد بأمور لا تطاق كبار.
ولما وضح عندنا منهم الاستمرار على ذلك والإصرار، أنكرنا عليهم أشد إنكار، ورأينا أن نتبع فيم ما أمر الله تعالى به في الكتاب والسنة، وأبينا إلا معاملتهم بأحكام الملة المحمدية التي كم لها على الملتين العيسوية والموسوية من منة، وادخر الله تعالى لنا هذه الحسنة التي هي من جملة الفتوحات التي يفتح الله تعالى بها لنا في الدنيا أبواب السعادة وفي الآخرة أبواب الجنة، فاستفتينا في أمرهم المجالس العالية حكام الشريعة المطهرة، واقتدينا بأقوال مذاهبهم المحررة، التي لنا بهديها إلى إصابة الصواب تبصرة، وعقدنا لهم مجلساً بدار عدلنا الشريف، وألزمناهم أحكام أهل الذمة التي بالتزام أوائلهم لها جرى عليهم حكم هذا التكليف، وأخذناهم بالعهد الذي نسوه، وألبسناهم ثوب الهوان الذي لبسوا ولما طال عليهم الزمان نزعوه ولم يلبسوه، وأجرينا عليهم الآن شروطه المضبوطة، وقوانينه التي هي من التبديل والتغيير محوطة؛ فمن جاوزها، فقد شاقق الشريعة الشريفة وبارزها، ومن خالفها، فقد عاند الملة الإسلامية وواقفها، ومن صدف عن سبلها وتنكبها، فقد اقترف الكبائر وارتكبها؛ وحظرنا عليهم أن يجعل أحد منهم له بالمسلمين شبها، وصيرنا عليهم الذلة التي ضربها الله تعالى عليهم وأوجبها.
فلذلك رسم بالأمر الشريف العالي، المولوي، السلطاني، الملكي، الصالحي، الصلاحي- لا زال أمره الممتثل المطاع، وزجره به عن المآثم امتناع وارتداع، ورأيه الصالح يريد الإصلاح ما استطاع- أن يعتمد جميع طوائف النصارى واليهود والسامرة بالديار المصرية وجميع بلاد الإسلام المحروسة وأعمالها: من سائر الأقطار والآفاق، وما أخذ على سالفيهم في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه من أكيد العهد ووثيق الميثاق:
وهو أن لا يحدثوا في البلاد الإسلامية وأعمالها ديراً ولا كنيسة ولا قلاية ولا صومعة راهب، ولا يجددوا فيها ما خرب منها، ولا يمنعوا كنائسهم التي عوهدوا عليها، وثبت عهدهم لديها، ان ينزلها أحد من المسلمينثلاث ليال يطعمونهم، ولا يؤوا جاسوساً ولا من فيه ريبة لأهل الإسلام، ولا يكتموا غشاً للمسلمين، ولا يعلموا أولادهم القرآن، ولا يظهروا شركاً، ولا يمنعوا ذوي قرابة من الإسلام إن أرادوه، وإن أسلم أحد منهم لا يؤذوه ولا يساكنوه، وأن يوقروا المسلمين، وأن يقوموا من مجالسهم إن أرادوا الجلوس، وأن لا يتشبهوا بشيء من المسلمين في لباسهم قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر، بل يلبس النصراني منهم العمامة الزرقاء عشرة أذرع غير الشعرى فما دونها، واليهودي العمامة الصفراء كذلك، وتمنع نساؤهم من التشبه بنساء المسلمين ولبس العمائم، ولا يتسموا بأسماء المسلمين، ولا يتكنوا بكناهم، ولا يتلقبوا بألقابهم، ولا يركبوا سرجاً، ولا يتقلدوا سيفاً، ولا يركبوا الخيل والبغال، ويركبون الحمير بالأكف عرضاً من غير تزين ولا قيمة عظيمة لها، ولا يتخذوا شيئاً من السلاح، ولا ينقشوا خواتيمهم بالعربية، ولا يبيعوا الخمور، وأن يجزوا مقادم رؤوسهم، وأن يلزموا زيهم حيث ما كانوا، ويشدوا زنانيرهم غير الحرير على أوساطهم؛ والمرأة البارزة من النصارى تلبس الإزار الكتان المصبوغ أزرق، واليهودية الإزار المصبوغ أصفر؛ ولا يدخل أحدهم الحمام إلا بعلامة تميزه عن المسلمين في عنقه: من خاتم نحاس أو رصاص أو جرس أو غير ذلك، ولا يستخدموا مسلماً في أعمالهم؛ وتلبس المرأة البارزة منهم خفين: أحدهما أسود، والآخر أبيض، ولا يجاوروا المسلمين بموتاهم، ولا يرفعوا بناء قبورهم، ولا يعلوا على المسلمين في البناء، ولا يساووهم ولا يتحيلوا على ذلك بحيلة، بل يكونون أدون من ذلك، ولا يضربوا بالناقوس ضرباً خفيفاً، ولا يرفعوا أصواتهم في كنائسهم، ولا يخرجوا شعانين، ولا يرفعوا أصواتهم على موتاهم، ولا يظهروا النيران، ولا يشتروا مسلماً من الرقيق ولا مسلمة، ولا من جرت عليه سهام المسلمين، ولا من منشؤه مسلم، ولا يهودوا ولا ينصروا رقيقاً، ويجتنبون أوساط الطريق توسعة للمسلمين، ولا يفتنوا مسلماً عن دينه، ولا يدلوا على عورات المسلمين. ومن زنى بمسلمة قتل؛ ولا يضعوا أيديهم على أراض موات للمسلمين ولا غير موات ولا مزدرع، ولا ينسبوه لصومعة ولا كنيسة ولا دير ولا غير ذلك، ولا يشتروا شيئاً من الجلب الرقيق ولا يوكلوا فيه، ولا يتحيلوا عليه بحيلة، ومتى خالفوا ذلك فقد حل منهم ما يحل من أهل النفاق والمعاندة.
وكذلك رسمنا أن كل من مات من اليهود والنصارى والسامرة: الذكور والإناث منهم يحتط عليهم من ديوان المواريث الحشرية بالديار المصرية وأعمالها وسائر البلاد الإسلامية المحروسة، إلى أن تثبت ورثته ما يستحقونه من ميراثه بمقتضى الشرع الشريف، وإذا أثبتوا ما يستحقونه يعطونه بمقتضاه، ويحمل ما فضل بعد ذلك لبيت المال المعمور؛ ومن مات منهم ولا وارث له يستوعب؛ حمل موجوده لبيت المال المعمور، ويجرون في الحوطة على موتاهم من دواوين المواريث ووكلاء بيت المال المعمور مجرى من يموت من المسلمين: ليتبين أمر مواريثهم، ويحمل الأمر فيها على حكم الشرع الشريف، عملاً بالفتاوى الشرعية المتضمنة إجراء مواريث موتاهم على حكم الفرائض الشرعية بحكم الملة الإسلامية المحمدية: من إعطاء كل فرض وعصبة ما يستحقه شرعاً، من غير مخالفة ولا امتناع، ولا مواقفة ولا دفاع؛ فإن ذلك مما يتعين أن يكون له إلى بيت المال المعمور فيه إرجاع، ولتعلق حقوق المؤمنين بذلك، ولأنه يعيد حيث تفيا إلى المسلمين ما يستحقه بيت المال من مال كل هالك، ولأنا المطالبون بما يؤول إلى ميراث المسلمين من تراث أولئك، لتكون هذه الحسنة في صحائفنا مسطرة، وإن كانت الأيام قد تمادت علها ومعرفتها نكرة، وتعادت إليها أيديهم العادية فاختلست من الذهب والفضة القناطير المقنطرة.
ورسمنا أن لا يخدم نصراني ولا سامري ولا يهودي في دولتنا الشريفة، ثبت الله قواعدها، ولا في دواوين الممالك المحروسة والأعمال، ولا عند أحد من أمرائنا أعزهم الله تعالى، ولا يباشر أحد منهم وكالة ولا أمانة، ولا ما فيه تأمر على المسلمين، بحيث لا يكون لهم كلمة يستعلون بها على أحد من المسلمين في أمر من الأمور؛ فقد حرم الله ذلك نصاً وتأويلاً وضمن حكمه في الحال والاستقبال قرآناً وتنزيلاً، فقال تعالى: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً}، وأوضح في اجتنابهم للمتقين علم اليقين، فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين}.
وقد نهى الله موالاتهم وأضاف بسخطه كل خزي إليهم، فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوماً غضب الله عليهم}.
وقد أذلهم الله جل وعز لافترائهم واجترائهم من كتابه العزيز في مواضع عدة، فقال تعالى: {ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة}، فوجب أن لا يكونوا على الأعمال أمنة، ولا للأموال خزنة: لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اليهود والنصارى خونة». وقال أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه: لا تستعملوا اليهود والنصارى فإنهم أهل رشاً في دينهم ولا تحل الرشا؛ فباعتزالهم واختزالهم يؤمن من مكرهم وخيانتهم ما يختشى.
ولما قدم عليه أبو موسى الأشعري من البصرة وكان عامله بها، دخل عليه المسجد، واستأذن لكاتبه وكان نصرانياً، فقال له أمير المؤمنين عمر: - وليت ذمياً على المسلمين، أما سمعت قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض} هلا اتخذت حنيفياً؟- فقال يا أمير المؤمنين: لي كتابته وله دينه، فأنكر أمير المؤمنين عليه ذلك وقال: لا أكرمهم إذ أهانهم الله، ولا أعزهم إذ أذلهم الله، ولا أدنيهم إذ أقصاهم الله- فاتبعنا في صرفهم الكتاب والسنة والأثر، ومنعنا عن المسلمين- بغل أيديهم عن المباشرة- الأذى والضرر، ودفعنا عن أمير المؤمنين من سوء معاشرتهم ما ألموا به من الأذى مع شر معشر.
فليعتمد حكم هذا المرسوم، الذي هو بالعدل والإحسان موسوم، وليخلد في صحائف المثوبات ليستقر ويستمر ويدوم، وليشع ذكره في الممالك، وليذع أمره في المسالك؛ وعلى حكام المسلمين- أيدهم الله تعالى- وقضاتهم، ومتصرفيهم وولاتهم، أن يوقعوا بمن تعدى هذه الحدود، من النصارى واليهود، ويردعوا بسيف الشرع كل جهول من أهل الجحود، ويحلوا العذاب بمن حمله العقوق عل حل العقود، ويذلوا رقاب الكافرين بالإذعان لاستخراج الحقوق وإخراج الأضغان والحقود.
وقد رسمنا بأن يحمل الأمر في هذا المرسوم الشريف على حكم ما التزم في المرسوم الشريف الشهيدي الناصري المتقدم المكتتب في رجب سنة سبعمائة، المتضمن للشهادة على بطركي النصارى اليعاقبة، والملكية، ورئيس اليهود بالتحريم وإيقاع الكلمة على من خالف هذا الشرط المشروط والحد المحدود، وأن لا يحلوا ما انبرم من محكم العقود، فيحل عليهم عذاب غير مردود؛ والله تعالى يعين سلطان الحق على ما يرجع بنفع الخلق ويعود، ويزين بصالح المؤمنين ملك الإسلام وممالك الوجود، ويهين ببأسه أعداء الدين، الذين لهم عن السبيل المبين، صدوف وصدود، ويسلك به شرعة الشرع الشريف ومنهاجه: من إماتة البدع وإحياء السنن وإدامة الصون وإقامة الحدود، ويهلك بسطوته الكافرين كما هلك بدعوة صالح النبي صلى الله عليه وسلم ثمود. والعلامة الشريفة أعلاه حجة فيه.